سورة النمل - تفسير تفسير الشعراوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النمل)


        


{إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ(7)}
ما زِلْنا قريبي عَهْد بذكر طرف من قصة موسى عليه السلام في سورة الشعراء، وهنا يعود السياق إليه مرة أخرى، لماذا؟ لأن دعوة موسى عليه السلام أخذت حيِّزاً كبيراً من القرآن الكريم، ذلك لأنهم أتبعوا أنبياءهم وعاندوهم حتى كَثُّر الكلام عنهم.
وعجيب أنهم يفخرون بكثرة أنبيائهم، وهم لا يعلمون أنها تُحسب عليهم لا لهم، فالنبي لا يأتي إلا عند شقْوة أصحابه، وبنوا إسرائيل كانوا من الضلال والعناد بحيث لاَ يكفيهم رسول واحد، بل يلزمهم(كونسلتو) من الأنبياء، فهم يعتبرونها مفخرة، وهي مَنْقصة ومذمّة.
أما تكرار قصة بني إسرائيل وموسى عليه السلام كثيراً في القرآن، فلأن القرآن لا يروي(حدوتة) و، لا يذكر أحداثاً للتأريخ لها، إنما يأتي من القصة بما يناسب موطن العبرة والتثبيت لفؤاد رسول الله: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120].
لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرَّض في رحلة الدعوة لكثير من المصاعب والمشاقّ، ويحتاج لتسلية وتثبيت، فيأتي له ربُّه بلقطة معينة، ولكن لا يُورد القصة كاملة، وهذا ليس عَجْزاً وحاشا لله عن إيراد القصة كاملة مرة واحدة.
وقد أورد سبحانه قصة يوسف عليه السلام كاملة من الألف إلى الياء في صورة قصة محبوكة على أتمِّ ما يكون الفن القصصي، ومع ذلك لم يأتِ لسيدنا يوسف عليه السلام ذِكْر في غير هذه القصة إلا في موضعين:
أحدهما: في سورة الأنعام: {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ} [الأنعام: 84].
والآخر في سورة غافر: {وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُمْ بِهِ حتى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ الله مِن بَعْدِهِ رَسُولاً} [غافر: 34].
إذن: ورود القصة في لقطات مختلفة متفرقة ليس عَجْزاً عن إيرادها مُسْتوفاة كاملة في سياق واحد، ولو فعل ذلك لكان التثبيت مرة واحدة.
وهنا يقول الحق سبحانه: {إِذْ قَالَ موسى لأَهْلِهِ إني آنَسْتُ نَاراً} [النمل: 7]، وفي موضع آخر يقول: {قَالَ لأَهْلِهِ امكثوا إني آنَسْتُ نَاراً} [القصص: 29] وفي هذه الآية إضافة جديدة ليست في الأولى.
أما قوله تعالى: {فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطور نَاراً} [القصص: 29] أي: آنس في ذاته، أمّا في الآيتين السابقتين فيخبر بأنه آنسَ ناراً، إذن: كل آية في موقف، وليس في الأمر تكرار، كما يتوهمّ البعض.
فموسى عليه السلام يسير بأهله في هذا الطريق الوَعْر ويحلّ عليه الظلام، ولا يكاد يرى الطريق فيقول لزوجته: {إني آنَسْتُ نَاراً} [النمل: 7] يعني: سأذهب لأقتبسَ منها، ليهتدوا بها، أو ليستدفئوا بها.
وطبيعي أنْ تعارضه زوجته: كيف تتركني في هذا المكان المُوحِش وحدي، فيقول لها {امكثوا إني آنَسْتُ نَاراً} [القصص: 29] يعني: أبقىْ هنا مستريحة، وأنا الذي سأذهب، فلربما تعرَّضت لمخاطر فكُوني أنت بعيداً عنها، إذن: هي مواقف جديدة استدعاها الحال، ليست تكراراً.
كذلك نجد اختلافاً طبيعياً في قوله: {لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ} [القصص: 29] وقوله {سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ} [النمل: 7].
فالأولى {لعلي} [القصص: 29] فيها رجاء؛ لأنه مُقبل على شيء يشكُّ فيه، وغير متأكد منه، وهو في هذه الحالة صادق مع خواطر نفسه أمام شيء غائب عنه، فلما تأكد قال {سَآتِيكُمْ} [النمل: 7] على وجه اليقين.
وفي هذه المسألة قال مرة: {لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ} [القصص: 29] وهنا قال: {سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [النمل: 7].
ذلك لأنه لا يدري حينما يصل إلى النار، أيجدها مشتعلة لها لسان يقتبس من شعلة، أم يجدها قد هدأتْ ولم يَبْقَ منها إلا جذوة، وهي القطعة المتوهجة مثل الفحم مثلاً، فكلُّ تكرار هنا له موضع، وله معنى، ويضيف شيئاً جديداً إلى سياق القصة، فهو تكامل في اللقطات تأتي متفرقة حَسْب المراد من العبرة والتثبيت.
ومعنى {لأَهْلِهِ} [النمل: 7] قالوا: إنها تعني جماعة بدليل قوله لهم {امكثوا} [القصص: 29] فكانت زوجته، ومعه أيضاً بعض الرُّعْيان أو الخدم. والإنسان منا يحتاج لأشياء كثيرة تقتضي التعدّد: فهذا يطبخ الطعام، وهذا للنظافة، وهذا لِكَيِّ الملابس.. إلخ.
لكن هناك شيء واحد لا يستطيع أحد أنْ يقضيَه لك إلا زوجتك، هي النسْل والمعاشرة الزوجية، كما يمكن للزوجة وحدها أن تقوم لك بكل هذه الأعمال، إذن: فهي تُغْني عن الأهل كلهم، ونستطيع أن نقول: إنه لم يكُنْ معه إلا زوجته.
وهذه شائعة في لغتنا: يقول الرجل: الجماعة أو جماعتي أو أهلي ويقصد زوجته، وفي هذا تقدير من الزوج لمكانة زوجته.
ومعنى {آنَسْتُ} [النمل: 7] آنس: يعني شعر وأحسَّ بشيء يُؤنسه ويُطمئنه، وضده التوجس: أي شعر وأحسَّ بشيء يخيفه، ومنه قوله تعالى في شأن موسى أيضاً: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعلى} [طه: 67- 68].


{فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(8)}
أي: جاء النار ف {نُودِيَ} [النمل: 8] النداء: طلب إقبال، كما تقول: يا فلان، فيأتيك فتقول له ما تريد. فالنداء مثلاً في قوله تعالى: {ياموسى} [طه: 11] نداء {إنني أَنَا الله} [طه: 14] خطاب وإخبار.
لكن ما معنى {نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النار وَمَنْ حَوْلَهَا} [النمل: 8] ولم يقُلْ: يا موسى فليس هنا نداء، قالوا: مجرد الخطاب هنا يُراد به النداء؛ لأنه ما دام يخاطبه فكأنه يناديه، ومثال ذلك قوله سبحانه: {ونادى أَصْحَابُ الجنة أَصْحَابَ النار أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً} [الأعراف: 44].
فذكر الخطاب مباشرة دون نداء؛ لأن النداء هنا مُقدَّر معلوم من سياق الكلام، ومنه أيضاً: {ونادى أَصْحَابُ الأعراف رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ ما أغنى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأعراف: 48].
ومنه أيضاً: {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلاَّ تَحْزَنِي} [مريم: 24] فجعل الخطاب نفسه هو النداء.
وقوله: {أَن بُورِكَ مَن فِي النار وَمَنْ حَوْلَهَا} [النمل: 8] كلمة بُورِك لا تناسب النار؛ لأن النار تحرق، وما دام قال {بُورِكَ مَن فِي النار} [النمل: 8] فلابد أن مَنْ في النار خَلْق لا يُحرق، ولا تؤثر فيه النار، فمَنْ هم الذين لا تؤثر فيهم النار، هم الملائكة.
وقد رأى موسى عليه السلام مشهداً عجيباً، رأى النار تشتعل في فرع من الشجرة، فالنار تزداد، والفرع يزداد خُضْرة، فلان النار تحرق الخضرة ولا رطوبة الخضرة ومائيتها تطفىء النار، فمَنْ يقدر على هذه المسألة؟ لذلك قال بعدها: {وَسُبْحَانَ الله رَبِّ العالمين} [النمل: 8].
ففي مثل هذا الموقف إياك أنْ تقول: كيف، بل نزِّه الله عن تصرفاتك أنت، فهذا عجيب لا يُتصوَّر بالنسبة لك، أمّا عند الله فأمر يسير.
وقد رأينا مثل هذه المعجزة في قصة إبراهيم عليه السلام حين نجَّاه ربه من النار، ولم يكُنْ المقصود من هذه الحادثة نجاة إبراهيم فقط، فلو أن الله أراد نجاته فحسب لَمَا أمكنهم منه، أو لأطفأ النار التي أوقدوها بسحابة ممطرة، أسباب كثيرة كانت مُمكِنة لنجاة سيدنا إبراهيم.
لكن الله تعالى أرادهم أنْ يُمسِكوا به، وأنْ يُلْقوه في النار، وهي على حال اشتعالها وتوهّجها، ثم يُلْقونه في النار بأنفسهم، وهم يروْنَ هذا كله عَيَاناً، ثم لا تؤذيه النار، كأنه يقول لهم: أنا أريد أن أنجيه من النار، رغم قوة أسبابكم في إحراقه، فأنا خالق النار ومعطيها خاصية الإحراق، وهي مُؤتمرةٌ بأمري أقول لها: كُونِي بَرْداً وسلاماً تكون، فالمسألة ليست ناموساً وقاعدة تحكم الكون، إنماَ هي قيوميتي على خَلْقي.
إذن: ما رآه موسى عليه السلام من النار التي تشتعل في خضرة الشجرة أمر عجيب عندكم، وليس عجيباً عند مَنْ له طلاقة القدرة التي تخرق النواميس.
وبناء الفعل {بُورِكَ} [النمل: 8] للمجهول تعني: أن الله تعالى هو الذي يبارك، فهذه مسألة لا يقدر عليها إلا الله {مَن فِي النار وَمَنْ حَوْلَهَا} [النمل: 8] يجوز أن يكون الملائكة، أو: بُورِكت الشجرة ذاتها لأنها لا تُحرق، أو النار لأنها لا تنطفىء فهي مُباركة.

وفي موضع آخر يُوسِّع دائرة البركة، فيقول سبحانه: {فِي البقعة المباركة مِنَ الشجرة} [القصص: 30].
ثم يخاطب الحق سبحانه موسى: {ياموسى إِنَّهُ أَنَا الله}


{يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(9)}
جاء هنا النداء على حقيقته بأداة ومنادى {إِنَّهُ أَنَا الله} [النمل: 9] هذا هو الأصل، وما دُمْتُ أن الله فلا تتعجَّب مما ترى، وساعةَ تسمع مَنْ يكلِّمك دون أن ترى متكلماً من جنسك، فلا تتعجب ولا تندهش.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8